الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قِيلَ لَهُ: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ قَدْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً لَا يُعَاشُ مِنْ مِثْلِهَا إلَّا مِثْلَ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ فَأَخْرَجَ حَشْوَتَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتْ جِرَاحَتُهُ ذَكَاةً لَهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَ بَعْدَ ذَلِكَ ذَبْحُهُ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ، فَهَذَا الَّذِي تَكُونُ جِرَاحَةُ الْكَلْبِ ذَكَاةً لَهُ؛ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ: فَهُوَ أَنْ يَعِيشَ مِنْ مِثْلِهَا، إلَّا أَنَّهُ اتَّفَقَ مَوْتُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي يَدِهِ فِي وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ؛ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُذَكًّى؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ قَدْ كَانَتْ مُرَاعَاةً عَلَى حُدُوثِ الْمَوْتِ قَبْلَ حُصُولِهِ فِي يَدِهِ وَإِمْكَانِ ذَكَاتِهِ، فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ حَيًّا بَطَلَ حُكْمُ الْجِرَاحَةِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ الَّتِي يُصِيبُهَا جِرَاحَاتٌ غَيْرُ مُذَكِّيَةٍ لَهَا مِثْلُ الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَا يَكُونُ ذَكَاتُهُ إلَّا بِالذَّبْحِ.وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّيْدِ يَغِيبُ عَنْ صَاحِبِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: «إذَا تَوَارَى عَنْهُ الصَّيْدُ وَالْكَلْبُ وَهُوَ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ قَتَلَهُ جَازَ أَكْلُهُ، وَإِنْ تَرَكَ الطَّلَبَ وَاشْتَغَلَ بِعَمَلٍ غَيْرِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدَهُ مَقْتُولًا وَالْكَلْبُ عِنْدَهُ كَرِهْنَا أَكْلَهُ» وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي السَّهْمِ إذَا رَمَاهُ بِهِ فَغَابَ عَنْهُ.وَقَالَ مَالِكٌ: «إذَا أَدْرَكَهُ مِنْ يَوْمِهِ أَكَلَهُ فِي الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا إذَا كَانَ فِيهِ أَثَرُ جِرَاحَةٍ، وَإِنْ بَاتَ عَنْهُ لَمْ يَأْكُلْهُ».وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: «إذَا رَمَاهُ فَغَابَ عَنْهُ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً كَرِهْت أَكْلَهُ».وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: «إنْ وَجَدَهُ مِنْ الْغَدِ مَيِّتًا وَوَجَدَ فِيهِ سَهْمُهُ أَوْ أَثَرًا فَلْيَأْكُلْهُ».وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ إذَا غَابَ عَنْهُ».قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْت» وَفِي خَبَرٍ آخَرَ عَنْهُ: «وَمَا غَابَ عَنْك لَيْلَةً فَلَا تَأْكُلْهُ».وَالْإِصْمَاءُ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَالْإِنْمَاءُ مَا غَابَ عَنْهُ.وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي رَزِينٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّيْدِ: «إذَا غَابَ عَنْك مَصْرَعُهُ كَرِهَهُ» وَذَكَرَ هَوَامَّ الْأَرْضِ.وَأَبُو رَزِينٍ هَذَا لَيْسَ بِأَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو رَزِينٍ مَوْلَى أَبِي وَائِلٍ.وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ لَمْ يَأْكُلْهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُدْرِكَ ذَكَاتَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، فَإِذَا لَمْ يَتْرُكُ الطَّلَبَ وَأَدْرَكَهُ مَيِّتًا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ فَكَانَ قَتْلُ الْكَلْبِ أَوْ السَّهْمِ لَهُ ذَكَاةً لَهُ، وَإِذَا تَرَاخَى عَنْ الطَّلَبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَوْ طَلَبَهُ فِي فَوْرِهِ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ الطَّلَبَ وَأَدْرَكَ حَيَاتَهُ تَيَقَّنَ أَنَّ قَتْلَ الْكَلْبِ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «وَإِنْ شَارَكَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْهُ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي قَتَلَهُ» فَحَظَرَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَهُ حِينَ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ كَلْبٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا كَانَ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ لَوْ طَلَبَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْكَلَ، لِتَجْوِيزِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ.فَإِنْ قِيلَ: رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرِ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ: «يَأْكُلُهُ إلَّا أَنْ يُنْتِنَ» وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: «إذَا أَدْرَكْت بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسَهْمُك فِيهِ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ».قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى رَفْضِ هَذَا الْخَبَرِ، وَتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَقُولُ إنَّهُ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ يَأْكُلُهُ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ أَكْلَهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ أَحَدٍ بِتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ.وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَإِنَّمَا الْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالذَّكَاةِ أَوْ فَقْدِهَا، فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مُذَكًّى مَعَ تَرَاخِي الْمُدَّةِ فَلَا حُكْمَ لَلرَّائِحَة، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى فَلَا حُكْمَ أَيْضًا لِعَدَمِ تَغَيُّرِهِ.وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ نَهْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِحِمَارِ وَحْشٍ عَقِيرٍ فِيهِ سَهْمٌ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ فَجَاءَ النَّهْدِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ رَمْيَتِي فَكُلُوهُ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُقَسِّمَ بَيْنَ الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ».فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ إنْ تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ لِتَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْأَلَتَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لَسَأَلَهُ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهَدَ هَذَا الْحِمَارَ عَلَى حَالٍ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى قُرْبِ وَقْتِ الْجِرَاحَةِ مِنْ سَيْلَانِ الدَّمِ وَطَرَاوَتِهِ وَمَجِيءِ الرَّامِي عَقِبَهُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَاخَ عَنْ طَلَبِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْهُ.فَإِنْ قِيلَ: رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي هُشَيْمٍ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أَهْلُ صَيْدٍ يَرْمِي أَحَدُنَا الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ ثُمَّ يَتْبَعُ أَثَرَهُ بَعْدَمَا يُصْبِحُ فَيَجِدُ سَهْمَهُ فِيهِ؟ قَالَ: إذَا وَجَدْت سَهْمَك فِيهِ وَلَمْ تَجِدْ بِهِ أَثَرَ سَبُعٍ وَعَلِمْت أَنَّ سَهْمَك قَتَلَهُ فَكُلْهُ».قِيلَ لَهُ: هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ لَيَالِي كَثِيرَةٍ أَنْ يَأْكُلَهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ، وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْعِلْمَ بِأَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ.وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ بَعْدَمَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ، وَقَدْ شَرَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إذَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ وَطَالَتْ الْمُدَّةُ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ.وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مَشْمُولِ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أَهْلُ بَدْوٍ وَنَصِيدُ بِالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ وَنَرْمِي الصَّيْدَ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَسَمَّيْت فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ قَتَلَ أَوْ لَمْ يَقْتُلْ، وَإِذَا رَمَيْت الصَّيْدَ فَكُلْ مِمَّا أَصْمَيْتَ وَلَا تَأْكُلْ مِمَّا أَنْمَيْت»؛ فَحَظَرَ مَا أَنْمَى، وَهُوَ مَا غَابَ عَنْهُ.وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا غَابَ عَنْهُ وَتَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي طَلَبِهِ أَكَلَ.فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَاحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَكْلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِكُمْ قِيلَ لَهُ: قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. اهـ.
.من فوائد ابن العربي في الآية: قال رحمه الله:قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {الطَّيِّبَاتُ} رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: قَدْ أَذِنَّا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّالآندْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَ أَنْ نَقْتُلَ الْكِلَابَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَتَلْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا، فَتَرَكْته وَجِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته، فَأَمَرَنِي فَرَجَعْت إلَى الْكَلْبِ فَقَتَلْته، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْت بِقَتْلِهَا، فَسَكَتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ».الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {الطَّيِّبَاتُ} وَهِيَ ضِدُّ الْخَبِيثَاتِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالطَّيِّبُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُلَائِمُ النَّفْسَ وَيُلِذُّهَا.وَالثَّانِي: مَا أَحَلَّ اللَّهُ.وَالْخَبِيثُ: ضِدُّهُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ الْكَوَاسِبُ، يُقَالُ: جَرَحَ إذَا كَسَبَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} فَكُلُّ كَاسِبٍ جَارِحٌ إذَا كَسَبَ كَيْفَمَا كَانَ، وَمِمَّنْ كَانَ، إلَّا أَنَّ هَاهُنَا نُكْتَةً، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ}.فَنَحْنُ فَرِيقٌ وَالطَّيِّبَاتُ فَرِيقٌ، وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ فَرِيقٌ غَيْرُ الِاثْنَيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ الْبَهَائِمِ الَّتِي يَعْلَمُهَا بَنُو آدَمَ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَعْلُومَةً وَهِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ فِي أَكْلِ مَا صِيدَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَحْقِيقًا؟ قُلْنَا: يُبَيِّنُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ أَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ: {مُكَلِّبِينَ}، كَلَّبَ الرَّجُلُ وَأَكْلَبَ إذَا اقْتَنَى كَلْبًا.وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ».وَالضَّارِي: هُوَ الَّذِي ضَرَّى الصَّيْدَ فِي اللُّغَةِ.وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى.فَقَالَ: إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ قَتَلَ، مَا لَمْ يُشْرِكْهُ كَلْبٌ آخَرُ.قَالَ: وَإِنْ أَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ».وَعِنْدَ جَمِيعِهِمْ: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ».وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَالَ: «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ».وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْهُ نَحْوَ الْأَوَّلِ عَنْ عَدِيٍّ.وَفِيهِ: «فَإِنْ صِدْت بِكَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ».فَقَدْ فَسَّرَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ التَّكْلِيبَ وَالتَّعْلِيمَ، وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك».وَالْمُعَلَّمُ: هُوَ الَّذِي إذَا أَشْلَيْتَهُ انْشَلَى، وَإِذَا زَجَرْته انْزَجَرَ، فَهَذَا رُكْنُ التَّعْلِيمِ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ.فَلَوْ اسْتَرْسَلَ عَلَى الصَّيْدِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَغْرَاهُ صَاحِبُهُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يُؤْكَلُ بِهِ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.وَالثَّانِيَةُ: لَا يُؤْكَلُ؛ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ أَكْلِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ الِانْشِلَاءُ وَانْزَجَرَ عِنْدَ الِانْزِجَارِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الصَّيْدِ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ».فَاعْتَبَرَ الِاسْتِرْسَالَ مِنْهُ وَالذِّكْرَ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَغْرَاهُ فَغَرِيَ فِي سَيْرِهِ: إنَّهَا نِيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْكَلْبِ، فَإِنَّهُ عَادَ إلَى رَأْيِ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَرَجَ لِنَفْسِهِ.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إنْ أَكَلَ الْكَلْبَ: فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: أَحَدَاهُمَا: أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُهُ، وَالثَّانِي: يُؤْكَلُ.وَالرِّوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى حَدِيثَيْ عَدِيٍّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ.وَحَدِيثُ عَدِيٍّ أَصَحُّ، وَهُوَ الَّذِي يَعْضُدُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ يُحْمَلُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ: «فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ».فَجَعَلَهُ خَوْفًا، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ.
|